فصل: تفسير الآية رقم (87):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (83):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [83].
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} معناه: فرجعوا إلى أبيهم، فقالوا له ما قال لهم أخوهم. فقال: بل سولت، أي: زينت وسهلت أنفسكم أمراً، ففعلتموه.
لطيفة:
قال الزمخشري: أمراً أردتموه، وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته، لولا فتواكم وتعليمكم؟!.
قال الناصر: هذا من الزمخشري إسلاف جواب عن سؤال، كأن قائلاً يقول: هم في الوقعة الأولى سولت لهم أنفسهم أمراً بلا مراء، وأما في هذه الوقعة الثانية، فلم يتعمدوا في حق بنيامين سوءاً، ولا أخبروا أباهم إلا بالواقع على جليته، وما تركوه بمصر إلا بمغلوبين عن استصحابه، فما وجه قوله ثانياً: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} كما قال لهم أولاً؟ وإذا ورد السؤال على هذا التقرير، فلابد من زيد بسط في الجواب، فنقول: كانوا عند يعقوب عليه السلام حينئذ متهمين، وهم قمن باتهامه لما أسلفوه في حق يوسف عليه السلام، وقامت عنده قرينة تؤكد نفي التهمة وتقويها، وهي أخذ الملك له في السرقة، ولم يكن ذلك إلا من دين يعقوب وحده، لا من دين غيره من الناس، ولا من عادتهم. وإلى ذلك وقعت الإشارة بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: من الآية 76]، تنبيهاً من الله تعالى على وجه اتهام يعقوب لهم، فعلم أن الملك إنما فعل ذلك بفتواهم له به، وظن أنهم أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة تعمداً؛ ليتخلف أخوهم، وكان الواقع أنهم استفتوا من قبل أن يدعي عليهم السرقة، فذكروا ما عندهم، ولم يشعروا أن المقصود إلزامهم بما قالوا. واتهام من هو بحيث تتطرق التهمة إليه لا حرج فيه، وخصوصاً فيما يرجع إلى الوالد من الولد. ويحتمل- والله أعلم- أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم، أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله، سرقة، من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقاً بوجه معلوم، وهذا في شرعنا لا يثبت لا سرقة عليه- ولله أعلم-.
وقوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} واقع بمكانه من حالهم، وإن كان شرعهم يقتضي ذلك مخالفاً لشرعنا، فالعمدة على الجواب الأول.
وقوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي: لا جزع: {عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} أي: بيوسف وأخيه المتوقف بمصر، فتذهب أحزانه بمرة واحدة: {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي: العليم بحالي وحالهم، الحكيم في تشديد الأمر لينظر مقدار الصبر فيفيض بقدره الأجر، ومن الأجر المعجل تعجيل الفرج.

.تفسير الآية رقم (84):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [84].
{وَتَوَلَّى} أي: أعرض: {عَنْهُمْ} أي: عن بنيه كراهة لما جاؤوا به: {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} أي: يا حزني الشديد، والألف بدل من ياء المتكلم للتخفيف. وقيل: هي ألف الندبة، والهاء محذوفة. والأسف أشد الحزن والحسرة على ما فات، وإنما تأسف على يوسف دون أخويه، والحادث رزأهما. والرزء الأحدث أشد على النفس، وأظهر أثراً؛ لأن الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده، فكان الأسف عليه أسفاً على من لحق به، ولأنه لم يُزل عن فكره، فكان غضاً طريًّا عنده، كما قيل:
ولم تُنسني أوفى المصيبات بعده ** وكل جديد يُذكر بالقديم

ولأنه كان واثقاً بحياتهما- دون حياته.
{وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} وذلك لكثرة بكائه.
قال الزمخشري: إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين، وقلبته إلى بياض كدر: {فَهُوَ كَظِيمٌ} أي: مملوء من الغيظ على أولاده، ولا يظهر ما يسوؤهم. فعليل بمعنى مفعول كقوله: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: من الآية 48]، أو بمعنى شديد التجرع للغيظ أو الحزن؛ لأنه لم يشكه إلى أحد قط. فهو بمعنى فاعل.
تنبيه:
دلت الآية على جواز التأسف والبكاء عند المصيبة.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟.
قلت: الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حمد صبره، وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن.
ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال: «إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».
وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الصدور والوجوه وتمزيق الثياب.
وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره، فقيل له في ذلك؟ فقال: ما رأيت الله جعل الحزن عاراً على يعقوب.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (85):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [85].
{قَالُواْ} أي: أولاد يعقوب لأبيهم على سبيل الرفق به، والشفقة عليه: {تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً} أي: مريضاً مشفياً على الهلاك: {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} أي: بالموت. يقولون: إن استمر بك هذا الحال، خشينا عليك الهلاك والتلف، واستدل به على جواز الحلف بغلبة الظن. وقيل: إنهم علموه، لكنهم نزَّلوه منزلة المنكر، فلذا أكدوه. و{تَفْتَأُ} مضارع فتئ، مثلثة التاء. يستعمل مع النفي ملفوظاً أو منوياً؛ لأن موضعه معلوم، فيحذف للتخفيف كقوله:
فقلت يمين الله أبرح قاعداً ** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

أي: لا أبرح. ومعنى {تفتأ}: لا تزال ولا تبرح.

.تفسير الآية رقم (86):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [86].
{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي} أي: غمي وحالي: {وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ} أي: لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم، إنما أشكو إلى ربي داعياً له، وملتجئاً إليه، فخلوني وشكايتي.
{وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ} أي: لمن شكا إليه من إزالة الشكوى، ومزيد الرحمة: {مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ما يوجب حسن الظن به، وهو مع ظن عبده به.
ولما علم من شدة البلاء مع الصبر، قرب الفرج، قوى رجاءهم، وأمرهم أن يرحلوا لمصر، ويتطلبوا خبر يوسف وأخيه بقوله:

.تفسير الآية رقم (87):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [87].
{يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} أي: تعرَّفوا من نبئهما، وتخبروا خبرهما: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ} أي: فرجه ورحمته المريحة من الشدة: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ} لم يُقل منه إشارة إلى ظهور حصوله لمن لم ييأس: {إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} أي: بالله ورحمته، وقدرته على إفاضة الروح، بعد مضي المدة في الشدة وسنته في إفاضة اليسر مع العسر، لاسيما في حق من أحسن الظن به.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (88):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [88].
{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ} أي: على يوسف بعد ما رجعوا من مصر، ولانفهامه من المقام طوى ذكره إيجازاً: {قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} أي: الملك القادر المتمنع: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} أي: الشدة من الجدب: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} أي: بدراهم قليلة في مقابلة ما نمتاره. استقلوا الثمن واستحقروه، اتضاعاً لهيبة الملك، واستجلاباً لرأفته وحنانه. وأصل معنى التزجية: الدفع والرمي، فكنوا به عن القليل الذي يدفع، رغبة عنه، لذلك: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْل} أي: أتممه ووفره بهذه الدراهم المزجاة، كما توفره بالدراهم الجياد: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} أي: برد أخينا، أو بالإيفاء، أو بالمسامحة وقبول ما لا يعد عوضاً: {إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} أي: يثيبهم أحسن المثوبة.
تنبيهات:
الأول: في الآية إرشاد إلى أدب جليل، وهو تقديم الوسائل أمام المآرب، فإنها أنجح لها. وهكذا فعل هؤلاء: قدموا ما ذكر من رقة الحال، والتمسكن وتصغير العوض، ولم يفجؤوه بحاجتهم؛ ليكون ذريعة إلى إسعاف مرامهم، ببعث الشفقة، وهز العطف والرأفة، وتحريك سلسلة الرحمة- كما قدمنا- ومن ثم رق لهم، وملكته الرحمة عليهم، فلم يتمالك أن عرَّفهم نفسه،- كما يأتي-.
الثاني: يؤخذ من الآية جواز شكوى الحاجة لمن يرجى منه إزالتها.
الثالث: استدل بعضهم بقوله تعالى: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} على أن أجرة الكيال على البائع؛ لأنه إذا كان عليه توفية الكيل، فعليه مؤنته، وما يتم به.
الرابع: استدل بقوله تعالى: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} من قال: إن الصدقة لم تكن محرمة على الأنبياء- كذا في الإكليل- وهذا بعد تسليم نبوة إخوة يوسف. وفيها خلاف. وسيأتي في التنبيهات، آخر السورة، تحقيق ذلك.
الخامس: في قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين} حثٌّ على الإحسان، وإشارة إلى أن المحسن يجزى أحسن جزاء منه تعالى، وإن لم يجزه المحسن إليه.
ثم بيَّن تعالى رأفة يوسف بتعرفه إليهم بقوله:

.تفسير الآية رقم (89):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} [89].
{قَالَ} أي: يوسف مجيباً لهم: {هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} أي: شبان غافلون؟ استفهام تقرير، يفيد تعظيم الواقعة. ومعناه: ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف، وما أقبح ما أقدمتم عليه! كما يقال للمذنب: هل تدري من عصيت وهل تعرف من خالفت؟ وهذه الآية تصديق لقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف: من الآية 15].
لطائف:
الأولى: أبدى المهايمي مناسبة بديعة في قول يوسف لهم: {هَلْ عَلِمْتُم} إثر قولهم: {إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين} وهو أنهم أرادوا بقولهم: {إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين} أنه يعطيهم في الآخرة ما هو خير من العوض الدنيوي، فأشار لهم يوسف بأنكم تريدون دفع الضرر العاجل، بوعد الأجر الآجل، ولا تدفعون عن أنفسكم الضرر الآجل، كأنكم تنكرونه، هل علمتم ضرر ما فعلتم بيوسف؟.
الثانية: قيل: من تلطفه بهم قوله: {إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} كالاعتذار عنهم؛ لأن فعل القبيح على جهل بمقدار قبحه، أسهل من فعله على علم. وهم لو ضربوا في طرق الاعتذار لم يُلفوا عذراً كهذا. ألا ترى أن موسى عليه السلام، لما اعتذر عن نفسه لم يزد على أن قال: {فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] ففيه تخفيف للأمر عليهم.
الثالثة: قال الزمخشري: فإن قلت: ما فعلهم بأخيه؟
قلت: تعريضهم إياه للغم والثكل، بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه، وجفاؤهم به، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحداً منهم إلا كلام الذليل للعزيز، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى. انتهى.

.تفسير الآية رقم (90):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [90].
{قَالُواْ} أي: استغراباً وتعجباً من أن هذا لا يعلمه إلا يوسف: {أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ} أي: الذي فعلتم به ما فعلتم: {وَهَذَا أَخِي} أي: من أبويِّ.
قال أبو السعود: زادهم ذلك مبالغة في تعريف نفسه، وتفخيماً لشأن أخيه، وتكملة لما أفاده قوله: {هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} حسبما يفيده قوله: {قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا} فكأنه قال: هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال، فأنا يوسف، وهذا أخي، قد منَّ الله علينا بالخلاص مما ابتلينا به، والاجتماع بعد الفرقة، والعزة بعد الذلة، والأنس بعد الوحشة.
ثم علل ذلك بطريق الاستئناف التعليلي بقوله: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ} أي: ربه في جميع أحواله: {وَيِصْبِرْ} أي: على الضراء، وعن المعاصي {فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أي: أجرهم، وفي وضع الظاهر موضع الضمير تنبيه على أن المنعوتين بالتقوى والصبر، موصوفون بالإحسان.

.تفسير الآية رقم (91):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [91].
{قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا} أي: فضَّلك بما ذكرت من التقوى والصبر، وسيرة المحسنين: {وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} أي: وإن شأننا وحالنا أنا كنا متعمدين للذنب، لم نتق ولم نصبر، ففعلنا بك ما فعلنا، ولذلك أوثرت علينا. وفيه إشعار بالتوبة والاستغفار، ولذلك:

.تفسير الآية رقم (92):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [92].
{قَالَ لاَ تَثْرَيبَ} أي: لا تعيير ولا توبيخ ولا تقريح: {عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} أي: وإن كنتم ملومين قبل ظهور منتهى فعلكم، ولا إثم عليكم، إذ: {يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ} أي: حقي لرضاي عنكم، وحقه أيضاً لواسع رحمته، كما قال: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أي: فكأنه لا خطأ منكم. و{اليوم} متعلق بالتثريب، أو بالمقدر في {عليكم} من معنى الاستقرار. والمعنى: ولا أثرّبكم اليوم، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب، فما ظنكم بغيره من الأيام؟! فتعبيره بـ: {اليوم} ليس لوقوع التثريب في غيره، لأن من لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره، فبعده بطريق الأولى.
وقال الشريف المرتضى في الدرر: إن اليوم موضوع موضع الزمان كله كقوله:
اليوم يرحمنا من كان يغبطنا ** واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا

ثم زادهم تكريماً بأن دعا لهم بالمغفرة، لما فرط منهم بقوله: {يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ}.
وقوله: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} تحقيق لحصول المغفرة؛ لأنه عفا عنهم، فالله أولى بالعفو والرحمة لهم، وبيان للوثوق بإجابة الدعاء. وجوز تعلق {اليوم} بـ: {يغفر}. والجملة خبرية سيقت بشارة بعاجل غفران الله؛ لما تجدد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم. والوجه الأول أظهر. والثاني من الإغراب في التوجيهات.
تنبيه:
قال بعضهم: إن تجاوز يوسف عن ذنب إخوته، وإبقاءه عليهم، ومصافاته لهم، تعلمنا أن نغفر لمن يسيء إلينا، ونحسن إليه، ونصفي له الود، وأن نغضي عن كل إهانة تلحق بنا، فيسبغ الله تعالى إذ ذاك علينا نعمه وخيراته في هذه الدنيا، كما أوسع على يوسف ويورثنا السعادة الأخروية. وأما إذا أضمرنا السوء للمسيئين إلينا، ونقمنا منهم، فينتقم الله منا، ويوردنا مورد الثبور، فنعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا.
ثم قال لهم يوسف: